دراسات
إسلامية
الاستعمار
المحلي
بقلم : الأستاذ أشرف شعبان أبو أحمد / جمهورية مصر العربية (*)
منذ أن بدأت الدول الغربية تضع خططَها لتتقاسم فيما بينها الأقطارَ الإسلاميّة في أفريقيا والجزيرة العربية، والشرق الأوسط وآسيا ؛ ومنذ أن بدأت غزواتهم لعالمنا الإسلامي، سواء كانوا تحت قيادة واحدة وراية واحدة، أم تحت رايات متعددة، خرج المسلمون من كل صوب وحدب، وهبّوا عن بكرة أبيهم يجاهدون في سبيل الله دفاعًا عن عقيدتهم وتحريرًا لأوطانهم ، ولم تفلْ لهم همّة ، ولم تخر لهم عزيمة ، حتى أزاحوا هذا المستعمر ، وطردوه شرّ طردة ، وظفروا باستقلال بلادهم .
وما
إن تسلم مجموعة من أبناء الوطن قيادةَ بلادهم ، إذا بالمجاهدين يلقون السلاح،
ويتوقفون عن الجهاد معتقدين أن بلادهم قد خرجت من جحيم الاستعمار الأجنبيّ، لتدخل
في نعيم الاستقلال. وما إن رسخت أقدامُ هذه المجموعة في الحكم فإذا بها تسير على
نفس منوال الاستعمار الأجنبيّ ، وإذا بأبناء الشعب وقد خرجوا للتوّ من جحيم الحكم
الأجنبي المستبدّ، يجدون أنفسهم وقد وقعوا في براثن استعمار جديد، استعمار ليس له
الوجه الأبيض أو الأشقر ولا العيون الزرقاء ولا الشعر الأصفر، وإنما يحمل بشرة من
لون بشرتنا، ويتكلم لغاتنا ويتسمّى بأسمائنا ويعتقد عقيدتنا ، إنما هو استعمار
محليّ ، وأن هذا المستعمر أو المحتل بكل ما تحمله الكلمة من معنى ومضمون الذي بزغ
فور أفول الاستعمار الأجنبيّ ، مازال رامضًا على أنفسنا، ومازلنا خاضعين له،
ومظاهر وقوعنا تحت سيطرته كثيرة ومتعددة ، منها على سبيل المثال لا الحصر :
فهو
يتفنّن في إحكام قبضته وسيطرته وهيمنته على الشعب بشتّى السبل التي سبقه إليها
الاستعمار الأجنبي ؛ فقد يسمح بالحريات أو يصادرها ، فتارةً يستخدم قوانين
الطوارئ، والأحكام العرفية لاعتقال الحرية ، وقطم الألسنة، وقصف الأقلام والرقاب ،
ويدفع بجيوشه إلى الشوارع لتعقب المجاهدين وتغتال الواحد وراء الآخر ؛ وتارةً يشرع
في إنشاء أحزاب صورية نبتت وترعرعت بين أرجاء الحزب الحاكم، وتشربت من أفكاره ، يعلن
عنها أنها أحزاب معارضة ؛ ولكنها في حقيقة أمرها أحزاب مستأنسة ، لا يخرج نطاق
عملها عن ثلاث نواح، الاستهلاك للطاقات فيما لا يضر ولا ينفع ، ثم الإشباع لرغبة
حب الزعامة لدي البعض ، والإثراء عن طريق ما يصدر عنها من صحف ومجلات ، مثلها مثل
سائر الأندية الرياضية والجمعيات الخيرية، كما لو كانت هذه الأحزاب مؤسّسات صحفية
وأن إصدار الصحف هو الهدف الذي من أجله قامت وإليه تسعى في بلاد ترتفع فيها نسبة
الأمية ويحجم المتعلمون عن شراء الصحف لارتفاع أثمانها، وبغض النظر عن ما يُكْتَب
فيها من غث لا يشبع نهم المتخصصين ولا يسدّ حاجة العامة ، فضلاً عن أن الرقابة تقف
بالمرصاد أمام كل ما هو نافع ومفيد . لا يشغل بال القائمين على الأحزاب الالتفاف
الجماهيري حولها، وفتح قنوات الاتصال معهم والعمل على خدمتهم وحل مشاكلهم إلا قرب
موعد الانتخابات وينتهي بنهاياتها . فالنظام الحاكم يحتكر لنفسه الرأي والرأي
الأخر ويأبىٰ غير ذلك، متناسيًا ومتجاهلاً أمر الإسلام بالشورى كأنهم دعامة
لإقامة نظام الحكم ، وقد كان الرسول –عليه الصلاة والسلام – شديدَ الحرص على سماع
الرأي الأخر والامتثال للرأي الأصحّ ، وعلى هذا الدرب سار الخلفاء الراشدون والسلف
الصالح رضوان الله عليهم جميعًا . فأهمُّ مظهر للاستقلال أن يشارك الشعب في الحياة
السياسية مشاركةً فعالةً ، وأن يكون لديه مقومات حرية التعبير والإفصاح عن رأيه
المبني على وعي صحيح ناضج يمكن لصاحبه التمييز بين الحق والباطل، والخطأ والصواب،
والحلال والحرام . ومن أجل أن يطيل النظام الحاكم مدة بقائه في الحكم، ويزيد من
عمر تسلطه على البلد ، ولكي يحمي نفسه من أيّ صورة من صور الخروج عليه التي شرعتها
القوانين والدساتير، أو من محاولة اغتياله من قبل أفراد الشعب ومن أجل ضمان ألاّ
تمس مصالحه ومشاريعه وأطماعه بسوء من قريب أو بعيد ، فإنه يبدّد ميزانية البلد،
وينفقها على إعداد حرس خصوصي، وقوات عسكرية ومرتزقة تدعم وجوده، فنرى ونسمع عن
وجهات متعددة لحفظ أمن النظام وفي هذا تفوق الاستعمارَ الأجنبي . والجميعُ يعلم
علم اليقين أنه إذا انتهى أجل أيّ فرد فسيأتيه الموت ، ولو كان في برج مشيد ومعد
بأحدث الطرق وأقوي الدفاعات والتحصينات الأمنية ؛ فكم من زعيم لقي حتفه ولم يمنع
حراسه الموت عنه ، وأن إقامة العدل تعفي الحاكم من كل هذا الخوف وتجعله آمنًا على
نفسه ، يعيش كبقيّة الرعية؛ بل يمكنه أن يستلقى تحت أية شجرة في الطريق العام ،
كما فعل سيدنا عمر – رضي الله عنه – فجاء من يقول له : «عدلت
فأمنت فنمت يا عمر».
هذا
من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن النظام الحاكم يضيق سبل العيش أمام الشعب ويمنع
القوت عنه ؛ بل يفتعل الأزمات ويرجع بأسبابها إلى الشعب حتى حين يلقمه بالنذير من
الفتات في صورة مِنَحٍ يخر الشعب راكعًا ساجدًا للنظام شاكرًا أنعمَه عليه ، وحتى
يظل الشعب دائمًا وأبدًا رهينَ رضا النظام عنه ، كما إنه بذلك يلهي أفراد الشعب في
البحث عن أكثر من مصدر للرزق يمضون فيه وقتَهم وطاقاتهم ، غير عابئين بمساوئ
النظام ومفاسده .
يفرّ
أصحاب النفوذ وذوو الحيثيات من تحت طائلة القانون بعد سرقتهم ونهبهم لخيرات وأموال
الشعب ، وقد أقسم الرسول – عليه الصلاة والسلام – لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع
يدها ، بينما كان العرب في الجاهلية إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم
الضعيف أقاموا عليه الحد. وها هو الاستعمار المحلي يسير على دربهم ويقتفي أثارهم
ليقتدي بها بينما عنوان الاستقلال وذروةُ سنامه العدالة والمساواة لايوجد له أثر .
ليست المساواة تلك التي يتساوى فيها فصائل التيار الإسلامي أمام الجلاد فينالهم
نفس القسط من العذاب وغيرهم في نعيم يمرعون؛ ولكن المساواة هي تلك التي أغضبت علي بن
أبي طالب عندما وقف أمام القاضي في خصومة بينه وبين يهودي فناداه القاضي بكناية
ميزه بها عن الخصم. وتلك التي جعلت أحد رعايا عمر بن الخطاب يرفض طاعته لتميّز
عمرَ بجلباب أطول من جلبابه ولم يتنحَّ عن موقفه هذا إلا بعد أن قام عبد الله بن
عمر وقال: إنه أعطى لأبيه جزاءًا من القماش المخصص له الذي وُزِّع على كل الناس
بالتساوى بما فيهم عمر بن الخطاب أمير المؤمنين . إذن فهذه هي المساواة أمام
القانون وعند تقسيم الثروات والدخل.
ومن
الأمثلة التي طفت على سطح الحياة السياسية كدليل على إثبات الاستعمار المحلي هو
هذا أو ذاك الحاكم ابن البلد ، وقد جاء إلى الحكم وسط ترحيب وتأييد وتصفيق وورود
من شعبه ، وإلى أن ثبتت أقدامه في الحكم وهو يمضي سنةً وراء أخرى ، يذيق شعبه
الأمرّين ، وقبل أن تصل أيديهم إليه يفرّ هاربًا من البلد وقد تركها أطلالاً وسط
سخط وغضب عارم ونفوس تتوق لمحاكمته والفتك به ، من أمثال الجنرال «محمد
سياد بري»
الذي حكم «الصومال»
منذ أكتوبر عام 1969م وفرّ هاربًا منها عام 1991م، وفي نفس العام فرّ من حكم
إثيوبيا «منجستوهريام»
بعد فترة حَكَمَ منذ عام 1977م وكلاهما يحمل جنسية بلاده ؛ ولكنه تَطَبَّعَ بطباع
الاستعمار فصار مثله ؛ ولكنه استعمار محلي الصنع . والأمثلةُ كثيــرة تحــــاول
فيها الشعوب إزاحــــةَ هذا المستعمر المحلي من على أنفاسها فنرى المجاهدين هنا
وهناك لا يضنون بأرواحهم وأموالهم، وفي كل يوم تملأ أسماعَنا أنباءُ استشهاد فرد
أو أكثر من المجاهدين أثناء ملاحقة أجهزة حفظ أمن النظام له ، كل يوم يسقط شهيد أو
أكثر، ونتطلع الجماهير الأحزاب المعارضة وجرائدها حتى تستنكر ما حدث وتبدي أسفها ؛
ولكن لا حياة لمن تنادي ، فلم نسمع لهم صوتًا ولم نر لهم يدًا ترفع احتجاجًا على
ما يحدث ، حتى صرخات الثكالى وبكاء الأيتام والأرامل على ذويهم لم تسمح به
السلطات. إن ما يحدث اليوم للمجاهدين وأهليهم يدلّ على سلبية ولا مبالاة كل من
يدعي انتمأه للإسلام . هذا الدين الذي أمرنا بمناصرة إخواننا في الإسلام مظلومين
وظالمين بعدم منعهم عن الظلم ، هذا الدين الذي
أمرنا بالضرب على يد الظالم حتى لا يعمنا الله بعقاب من عنده ، هذا الدين الذي جعل
أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر. فإذا كان لهؤلاء الشهداء ناصر، ما كانت
الدنيا قامت وقعدت إلا بالثأر والقصاص من القتلة ، عشرات بل مئات الشهداء تغطي
دماؤهم الذكية أرجاءً البلاد ، والكل خاضع خانع .
كم
أتخيّل قلب هذه الأم وهو يحترق على ابنها الشهيد ، وأشعر به ينزف دمًا ، وأحس بجزع
وهلع والده ، وحزن أخواته ، وأرى الأسى يعتلي
وجوهَهم والدموع تمطر من أعينهم ، يرتجف قلبي وترتعد فرائصي ؛ ولكن لا أستطيع أن أتخيل
أن مسلمًا يشهر سلاحه ليقتل مجاهدًا مسلمًا كيف يرتع بين أهله وأصدقائه وكيف تغفل
عيناه وهو يعلم جزاءه ومصيره في الدنيا والآخرة ، يوم تُجْزٰى كلُّ نفس عما
اقترفت ؛ ولكن صبرًا ! فإن وعدَ الله آتٍ لينصر عباده ويمكن لهم في الأرض ويهلك
أعداءه وعلى هذه الوتيرة مضت سنة الله في خلقه .
ولا
تبقى أمامنا سوىكلمة ، وهي لكي لانعيش دائمًا وأبدًا تحت سيطرة وظلم المستعمرين
أجانب ومحليين ، فلابد من إحياء فريضة الجهاد مثلها مثل بقية فرائض الإسلام ؛
فالمسلم في جهاد دائم إلى يوم القيامة، جهاد أعداء الإسلام، وجهاد من ينتسبون إلى
الإسلام ولا يقيمون أحكامه، وشعائره وفرائضه وحدوده. وذلك بالقلم واللسان إن لم
يمكن بالسيف والسنان ، فمن لا يحكم بما أنزل الله تجب مجاهدته، ومن يعطل حدود الله
تلزم مجاهدته ، ومن يسعى في الأرض فسادًا أو يثري على حساب فقر وجوع غيره أمرنا
الإسلام بمجاهدته ، فيا أمة الإسلام! حي على الجهاد .. على الجهاد بأوسع معانيه
فليس هو تشهير السلاح فقط ؛ ولكنه جدّ وكفاح ونضال ومحاولة إصلاح لاتنقطع مالم
تتوفر شروط تشهير السلاح كما هو مذكور في الفقه .
* * *
مجلة
الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . رمضان - شوال 1427هـ =
أكتوبر - نوفمبر 2006م ، العـدد : 9-10 ، السنـة : 30.
(*) 6
شارع محمد مسعود متفرع من شارع أحمد إسماعيل وابور
المياه – باب شرق – الإسكندرية ، جمهورية مصر العربية.
الهاتف
: 4204166 ، فاكس : 4291451
الجوّال
: 0101284614
Email:
ashmon59@yahoo.com